انفراد - أحدث قصة قصيرة للأديب أحمد حسن فتيحي
وقد كان...
يوم من أيام الربيع.. الشمس تسطع فيه بابتسامة الجمال، والزهور تتمايل في لحن غزلي لتظهر رقة الطبيعة. اليوم الجمعة.
في مدينة جدة كلها تلبس بما يوحي بأن الجميع يعبر عن سعادته ورضاه.. وكأن شمس جدة طلعت لهم وحدهم تتمدد بحنان وتدلل مع نسمة تلفح الوجنات كقبلات أم حنون على وجنتي ابنها..
اجتمع الجمع في مسجد عكاش العتيق.. وجهاءاً.. وأعياناً.. تجاراً.. وموظفين.. طلبة من مدرسة الفلاح برفقة والديهم، ورجال المهن المختلفة.. نجارين.. صاغة.. حدادين.. منجدين.. كل المهن أصحابها وممارسوها يجتمعون لصلاة الجمعة والاستماع لخطبة الإمام الذي كان من أهالي جدة المرموقين.. والمؤذن من جدة وجموع المصلين أهالي جدة ومواليدها أباءاً وأجداداً أبناءاً وأحفاداً.. وتجمعهم أواصر الرحم.. فهم عائلة واحدة أصهاراً وأقارباً.. مستويات مالية وعلمية ووظيفية وعملية مختلفة، ومع هذا لا تفرق بينهم فالكل يعرف مكان الكل وتسود المحبة والتواضع والمودة والمروءة كل هؤلاء الرجال.. فالفضل لمن يبدأ بالسلام ويضع الابتسام.. وتعليق لطيف من هنا وهناك يرافقه دعاء ووداع مؤقت لملاقاة أخرى..
وينصرف الجميع.. كل إلى بيته وبين أهله وأولاده وأحفاده إن وجدوا.. ويعتبر يوم الجمعة بعد صلاة الظهر هو يوم التفرغ للعائلة.. صغيرة أو كبيرة.. فقيرة أو غنية.
بعد الصلاة.. من الباب الجنوبي للمسجد (عكاش) يشتري كل منهم ما يستطيع من الفاكهة التي تدخل البيوت المتواضعة.. أما التجار والميسورون فإن فاكهتم من الحلقة (شبه يومية) ومع هذا يشترون من البائع لكي يجعلوه يستفيد.. ولا ينتهي البيع إلا بكلمة (جبرنا).. أي أن الله جبر خاطرنا وبعنا كل شيء.. فهذا هو مصدر رزقهم الأسبوعي..
فاكهة الربيع منها المشمش والكرز والفراولة والتفاح والعنب وهكذا.. والبيع بالوحدة الوزنية (الأقـــة).. والميزان بجانبه الصنج، ويحمله البائع فوق دواره الذي يحمل ما يبيع.. ودائماً يجعل الميزان لصالح الـمشتري.. حبــــاً وخوفـــاً وخشية..
كان ابنه الوحيد معه كعادة الآباء في اصطحاب أبنائهم.. الأب بأناقته.. والابن باهتمام الأم به لرفقة والده.. أسرة ليس فيها غير الأب والأم والابن.. تعيش في بيتها الذي ورثه الأب عن والده.. وهم في حالة مستورة من العيش الكريم.. ومهنته تدر عليه ما يكفيه.. وامرأته تعينه على الكفاف والتوفير.. والابن مطيع مجتهد لم يتجاوز العاشرة من عمره، ومع هذا كأنه فتى يفقه ما حوله ويسأل ويتساءل.. والأب والأم يوضحان وينصحان.. ولا تخلو كلمات الأم بصوت مسموع: "الله أكبر.. الله يحميك".. والأب بقلبه يقول: "أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامَّه".
سعادة وهناء ورضاً.. ودائما يقول الحمد لله عندنا ما يكفي.. ويعدد الكفايات وينهي ذلك بالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها من نعمة..
اشترى الأب فاكهة ودفع قيمتها بريالين من الفضة (العملة المستعملة آنذاك).. وهمَّ بحملها مع ولده إلى البيت وإذا بأحد الشباب (لا يقل أناقة عنه) يضع المصنف على كتفه ويقترب ليسأل: "أتسمحوا لنا بمساعدتكم يا سيدي؟".. أجاب الأب: "نعم.. لقد جئت في الوقت المناسب.. فضلاً احمل عني واذهب مع ابني وانتظرني عند البيت".. وصل الشاب والابن والفاكهة معهما فوجدا الأب في انتظارهما.. وضع الأب يده في جيبه وأخرج ما تيسر وأعطاها للشاب الذي ساعده في حمل الفاكهة..
بعد الغداء.. وفي الصفة الشمالية الغربية حيث تجلس العائلة؛ الأم والأب والابن.. توضع جزة الشاهي والسموار والفناجيل المسكوفي.. وتلبس الأم الطرحة بلون البحر الهادئ، والسديرية التي تتدلى منها أزارير الكيرم.. والكرتة (الفستان) الذي يشبه لونه الطرحة.. والسروال الحلبي.. وتقدم
الشاهي بالفنجان المسكوفي لزوجها.. وهي فيها ومعها نظرات الحب والرضا.. وتشيع فيه وفي بيتها روح المودة والرحمة المخلوطة بإعجاب متميز فخور، وكأنه إذا قيس بكل المقاييس لوجدته قد أخذ خصوصيته فاحتواها في قلبها ونظراتها وأدبها ورقتها..
استند الأب على المسند متكئاً على المدفع.. ورجلاه خلفه حتى لا تواجه الأم وابنهما.. وابتسامته تملأ وجهاً تتلألأ بالرضا والسكينة..
يبادر ابنه بالسؤال: "إيش عندك يا حبيبنا؟".. رد الابن قائلاً: "كنت مبسوطاً كثيراً بالصلاة معكم.. وخاصة عندما جلست اليوم وسمعت الخطبة وفهمت منها أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قربة ورحمة من الله تعالى".. قال الأب: "هذا الخطيب من آل البيت.. رجل له حكمة ووقار واحترام، ويعمل في منصب متميز في المحكمة، فهو قاضي.. وكل أبناؤه صالحون.. نفعه الله ونفعنا بعلمه"..
قال الابن: "لقد رأيت منكم اليوم بأننا اشترينا الفاكهة ودفعنا ريالين.. وكنت سعيداً بأن أحملها، إلى أن أتانا هذا الرجل ليساعدنا ورافقته إلى البيت.. وضعت يدك في جيبك وأعطيته عشرة ريالات.. فقد كان صوتها مسموعاً عندي".. وقد قال لك: "الله يسترك".. "ولم تنظر إليه.. وسمعتك متمتماً بكلمة لم أسمعها".. "ليه أعطيته عشرة ريالات ونحن اشترينا الفاكهة بريالين فقط؟".. قال الأب: "هذا الشاب من عائلة كريمة ميسورة الحال فيما مضى، فقد كان أبوه مجاهداً في كفاحه على لقمة العيش.. وقد توفاه الله، وهذا أكبر إخوته السبعة ويصرف عليهم.. ويراعيهم ويهتم بهم.. فيه شكر الأغنياء.. ورضا الفقراء.. واستقامة الشرفاء.. ولم يتزوج حتى الآن لعدم استطاعته.. وهو يعمل في كل المناسبات أفراحاً وأتراحاً.. يعني ( فزيع).. وعندما قال لي نساعدكم.. تيقنت بأنه محتاج فكلفته بالمهمة.. قال الابن: "ولكنك أعطيته عشرة ريالات والفاكهة التي اشتريناها بريالين!".. قال الأب: "تلك يا بني الصدقة المخفية.. تعطي لرجل عفيف بتصرف لطيف لا تحمل منّا ولا أذى.. يراها صاحب اللطف الخفي.. فتبقى عنده.. يفرح بها الحبيب الوفي -صلى الله عليه وسلم- لتقول هذا إيمان فلان.. قال الابن: "طيب هذه عرفناها.. ولكن الرجل امتلأت عيناه بالدمع ولم يستطع أن يخفيهما أو يداريهما وهو يقول الله يسترك.. ويربت على رأسي ويقول: "الله يبارك فيك وفيه".. ولم تنظر إليه ولم ترد عليه".. قال: "لقد قلت آمين.. أما النظر إليه..
فيا بني.. عندما تعطي.. لا تنظر إلى من أعطيت..
فإن نظرك إليه يجلب لك سعادة ورضاً.. فتأخذ أجرك..
فوددت أن أبقي أجري يوم لقاء الله (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً)..
افتح القرآن..
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا)
(إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيراً)
(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً)
قال الابن: "نعم فهمت".. وأخذ يقفز برجله اليسرى واليمنى معلقة من هنا وهناك.. (بِربِر)..
قالت الأم لابنها: "سوف يمتلئ بيتنا بأولادك إن شاء الله"..